اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
يتطور دماغنا؛ ذلك الجهاز المذهل الذي يتألف من الشبكات العصبية وفق تجارب حياتنا، وفي أشهر الحمل تتطور بنية الدماغ كاملة، بسبب تغييرات في إفراز هرمونات جنسية مثل الإستروجين والبروجسترون التي تكون ضرورية للاحتفاظ بالحمل وإعداد المرأة للولادة، لكنّ لها تأثيرا كبيرا في الدماغ إذ تتحكم في شكل الخلايا العصبية وأعدادها.
يشبه الأمر ما يحدث عند البلوغ، حين يزيد إفراز هرمون الإستروجين والبروجسترون زيادة تتسبب في تغييرات سلوكية ومعرفية وعاطفية لدى المراهقين. ووفق موقع “ذا كونفرزيشن”، فإن زيادة هرمون الإستروجين يمكن أن تؤدي إلى تغييرات في القدرة على التعلم واتخاذ القرار، كما تؤثر تأثيرا إيجابيا في الحالة المزاجية والعاطفية.
يقف الإستروجين خلف كثير من التغيرات لدى النساء لا سيما خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل، إذ تسجل أعلى مستويات لهذا الهرمون داخل الجسم.
أما بخصوص البروجسترون، فتشير الدراسات إلى حدوث زيادة في التعبير عن بروتينات الهيكل الخلوي (وهو نسيج البروتين الذي يوفر الدعم الداخلي للخلية) في منطقة الحصين بالدماغ، وهو ما قد يزيد مرونة المشابك العصبية والروابط بين الخلايا العصبية.
لا يُعرف حتى الآن كيف تؤثر الهرمونات في الذاكرة، ولا يزال الأمر يتطلب مزيدا من الدراسات للوقوف على دورها في هذا الجانب، وبوجه عام لا تزال المعرفة بما يحدث من تأثير على الدماغ قليلة نسبيا وتحتاج إلى مزيد من الدراسات.
ينخفض خلال الحمل حجم المادة الرمادية، وهي منطقة من الدماغ تتكون بشكل أساسي من الأجسام العصبية، وهذا ليس سلبيا كما قد يبدو، فكما يحدث في دماغ المراهق فإن هذه الخسارة تعوّض سريعا بعد ولادة الطفل، لتنشأ دوائر دماغية أكثر كفاءة.
ففي دراسة أجريت عام ۲۰۲۲ ونشرتها مجلة “نيتشر كوميونيكيشن” (Nature Communications) كشف التصوير بالرنين المغناطيسي عن تغيرات هائلة تحدث في دماغ الأم الحامل، إذ يزيد فقدان المادة الرمادية ويُعاد تشكيل “الوضع الافتراضي” الذي يكون فيه الدماغ في حالة أحلام اليقظة أو الشرود، أو أداء مهام بطريقة آلية، ويرتبط أيضا بالشعور بالهوية، وتعزز هذه التغيرات العصبية الترابط بين الأم والطفل وتلعب دورا في تحوّل الهوية الذي تشعر به العديد من النساء عندما يصبحن أمهات.
وفي مناطق الدماغ المختلفة تحدث لدى الحامل تغييرات تتعلق بالمشاعر، فيزيد مثلا حجم الغدة النخامية المسؤولة عن إفراز هرمونات تؤثر في وظائف الجسم المختلفة، وفي أشهر الحمل يصبح دورها خلق رابطة عاطفية بين الأم والطفل، بينما يؤثر التقلص في منطقة الحصين على الذاكرة والتحكم في العواطف.
ووفق موقع “لايف ساينس” (Livescience)، فقد أشارت دراسة سابقة أجريت في إسبانيا إلى أن انخفاض حجم المادة الرمادية يمتد نحو عامين بعد الولادة، لكن تتبّع تأثير هذه التغييرات في الدراسة الجديدة كشف عن ارتباط فقدان المادة الرمادية بسلوك “التعشيش” الذي تقوم به الأم استعدادا لاستقبال الطفل، ومن ذلك تهيئة المنزل وشراء أغراض للطفل.
وقد ارتبط هذا التغيير لاحقا بالشعور بالمتعة عند التواصل مع الطفل، وقلة الشعور بالاستياء أو الغضب تجاهه. وبشكل عام تسهم التغييرات التي يمر بها الدماغ أثناء الحمل في التأثير في قدرة الأم على اكتشاف ما يفكر فيه الآخر -الطفل- والشعور به، وذلك يعزز الرابطة بين الأم والطفل الجديد ويزيد قدرتها على فهم احتياجاته، واكتشاف ما قد يهدده، ويمكن تسمية ما يحدث بأنه “إعادة ضبط” لدماغ المرأة تتوافق مع وضعها الجديد، فتدعم قدراتها في رعاية الطفل القادم.
الدراسة التي نشرتها مجلة “ميد بريغل” (Med Pregl) عام ۲۰۰۴ تعدّ الحمل حدثا نفسيا قويا، بخاصة الحمل الأول، بما يشمله من تغييرات نفسية معقدة. وتشير الدراسة إلى حدوث تغيرات تبدو متناقضة، وتشمل التغيرات المزاجية والقلق والتعب والإرهاق والنعاس وردود الفعل الاكتئابية أحيانا والشعور بالإثارة أحيانا أخرى.
وتحذر الدراسة من أن حالة الحمل التي يتغير فيها مظهر الجسم وعواطف المرأة تتوالى فيها الأفكار والمخاوف، وتشكل ضغطا قويا على المرأة قد يؤثر في الحالة النفسية لها، حتى في المرحلة التالية له، مرحلة بعد الولادة، وهو ما يتطلب العناية الجيدة ودعم الأسرة والمجتمع للتغلب على ما قد يستتبعه من آثار نفسية تترك عواقبها على المدى البعيد على الطفل الجديد.
ووفق موقع “معهد علم النفس-علم الجنس مايوركا” (Instituto Psicología-Sexología Mallorca)، تؤثر التغيرات في الهرمونات في الحالة المزاجية، كما أن التغيرات الجسدية تشعر النساء أحيانا بعدم الارتياح، وذلك يؤثر في الحالة العاطفية، ويصل الأمر أحيانا إلى تشويه صورة الجسد خاصة في وجود الضغوط الاجتماعية، والفكرة المسبقة عن الزيادة المقبولة في الوزن أو الفترة التي يكون على المرأة استعادة الوزن الطبيعي لها بعد الولادة.
تنعكس التغيرات المزاجية في مشاعر متناقضة بين الشعور بالرغبة في لقاء الطفل، والشعور أحيانا بالخوف من الولادة والذعر من عدم القدرة على تحمل المسؤولية القادمة، وقدرتها على أن تكون أما جيدة، فضلا عن القلق على صورة الجسد وأزمة الهوية التي يعنيها دورها الجديد، إذ يترافق الحمل مع إعادة تقييم أولويات الحياة. إنها النقطة الفاصلة التي تشعر المرأة أمامها بضرورة تحديد أهداف جديدة والتخطيط للمستقبل، وهو ما قد يعرضها لمستويات أعلى من التوتر.
لكل هذه المرحلة تتطلب قدرا كبيرا من الرعاية لما لها من تأثير كبير على صحة الأم وقدرتها على تقديم الرعاية لطفلها الجديد، وإقامة علاقة آمنة معه، ولما تسهم فيه البيئة الصحية للأم من دعم عاطفي ومعرفي للطفل قبل الولادة وبعدها، كما أن الاهتمام بها يعدّ وقاية لخطر التعرض لاضطرابات مثل اكتئاب ما بعد الولادة.
الخبر الجيد الذي تشير إليه دراسة نشرتها مجلة “ساينتيفيك ريبورت” عام ۲۰۲۳ أن هذه التغيرات تؤثر إيجابيا في وظائف المخ في مراحل متقدمة من العمر، بعيدا عما يتعلق باحتياجات الأطفال، وتسهم على المدى البعيد في دعم صحة عقلية أفضل للأمهات، مقارنة بمن لم يمررن بتجربة الأمومة.
المصدر : الجزيرة